منذ 1 يوم 0 81 0
قراءة تأملية في قصة "زين والكتاب" للكاتبة هدى مهدي من المجموعة القصصية سان جو
قراءة تأملية في قصة

قراءة تأملية في قصة "زين والكتاب" للكاتبة هدى مهدي من المجموعة القصصية سان جو

قراءة: سلمى البكري

تأتي قصة "زين والكتاب" للكاتبة هدى مهدي ضمن مجموعة سان جو التي تضم ثلاثين كاتبًا سعوديًا، لتشكّل نموذجًا متفردًا في استلهام الذاكرة الشعبية واستحضار الحنين الثقافي، وإعادة الاعتبار لمرحلة تعليمية واجتماعية أصيلة في تاريخ المجتمع السعودي، حين كانت الكتاتيب فضاءً أوليًا للتربية والتعليم قبل نشوء المدارس النظامية. ومنذ العنوان، تكشف القصة عن علاقتها الوثيقة بالتراث؛ فالكتاب هنا ليس مجرد مكان للتعلّم، بل فضاء رمزي يحتضن معاني النور والتهذيب والنهضة الأولى للأنثى في مجتمعها المحلي، بينما تمثل شخصية "زين" صورة الفتاة السعودية الأولى الطامحة إلى المعرفة، المتمثلة بالقيم الدينية والاجتماعية في آنٍ واحد.

تميزت الكاتبة ببناء سردي بسيط في ظاهره، عميق في دلالاته، إذ استخدمت الراوي العليم الذي ينقل الأحداث بلغة نقية قريبة من روح الحكايات الشفوية القديمة، مما أضفى على النص بعدًا توثيقيًا وإنسانيًا في الوقت ذاته. تتدرج القصة في تصاعد هادئ من مرحلة التعليم في الكتّاب إلى التخرج، ثم الامتداد القيمي حين تواصل زين تعليم بنات الحارة، مما يمنح النص تماسكًا زمنيًا واضحًا وبناءً حلقيًا يبدأ بالتعلّم وينتهي بالتعليم، في دلالة على ديمومة المعرفة وانتقالها عبر الأجيال.
واللافت في هذا السياق أن الفقيهة المعلّمة لم تكتفِ بتعليم الفتيات قراءة القرآن الكريم وحفظه، بل حرصت أيضًا على تلقينهن حِرفة التطريز اليدوي، لتغرس فيهن قيمة العمل والإنتاج، فيخرجن من الكتّاب وهنّ يحملن علمًا يُنير عقولهن وصنعةً تُعينهن على إعالة أنفسهن وأسرهن، دون مدّ يدٍ لأحد. بذلك تتجاوز رسالة التعليم حدود الحرف إلى بناء الكرامة والاكتفاء، في صورة حضارية راقية من صور التمكين المبكر للمرأة.

اللغة في القصة تجمع بين الجزالة والبساطة، وتفيض بنبرة وجدانية صادقة، أما الحوار فجاء منسجمًا مع البيئة التراثية، معبّرًا عن احترام المتعلّمة لمعلّمتها وعن العلاقة الأخلاقية التي كانت تربط الفقيهة بتلميذاتها في زمن كان التعليم فيه رسالة سامية.

القصة تُبرز مكانة المرأة في التعليم الشعبي القديم، مؤكدة أن الفتاة السعودية لم تكن بمعزل عن مسار التنوير، بل كانت جزءًا فاعلًا منه من خلال مؤسسات صغيرة مثل الكتاتيب. شخصية زين تتجاوز كونها تلميذة مجتهدة لتصبح رمزًا للمرأة الصانعة للوعي في محيطها، فهي امتداد لمعلّمتها، وتتحول من متلقية للعلم إلى ناقلة له، في تجلٍّ لمفهوم التمكين المعرفي المبكر للأنثى قبل أن تُصاغ المصطلحات الحديثة التي تصفه. كما تحتفي القصة بالقيم الاجتماعية التي شكّلت نسيج المجتمع القروي القديم، كالاحترام والطاعة وردّ الجميل والإيثار، حيث نرى الفقيهة تبذل جهدها حبًا في التعليم، والأم تردّ العرفان بعطاء كريم، بينما زين تُورّث ما تعلمته بمحبة ومسؤولية، وكأنها تُكمل سيرة الضوء التي بدأت في الكتاب.

أما الرمزية في النص، فتتجلى في حضور الكتاب كرمز محوري يتجاوز دوره المادي إلى كونه رمزًا للنور والهداية والاستمرارية. وتمثل الفقيهة الأم الثانية التي تغرس في نفوس الطالبات القيم قبل الحروف، في حين أن الفستان الأبيض المطرّز في مشهد التخرج يرمز إلى طهارة المعرفة ونقاء النية، ليغدو الاحتفال بالتعلم أقرب إلى احتفال روحي لا مجرد حدث اجتماعي. حتى الأناشيد الشعبية التي أدرجتها الكاتبة في مشهد الزفة جاءت بنغمة فولكلورية دافئة، تضفي على النص نكهة محلية أصيلة، وتربط بين الدين والفرح والمجتمع في لوحة احتفالية تفيض بالحياة.

من الناحية الفنية، نجحت الكاتبة هدى مهدي في الجمع بين البعد التربوي والبعد الجمالي، فهي لا تكتفي بسرد الحدث، بل تحتفي بصفاء القيم وبساطة الحياة في ذلك الزمن الجميل. ومن الناحية التاريخية، تشكل القصة وثيقة أدبية اجتماعية تحفظ ملامح التعليم النسوي الشعبي في المملكة، وتسهم في صون الذاكرة الثقافية للأجيال القادمة. كما استطاعت هدى مهدي بلغة متينة وأسلوب شفاف أن تحيي زمنًا منسيًا، وتجعل القارئ يعيش تفاصيله بعين الحنين، دون أن تقع في فخ الوعظ أو الخطابية، بل قدّمت حكايتها بصفاء يشبه براءة الطفلة زين نفسها.

تُعد زين والكتاب من القصص التي تُعانق الوجدان بصفائها الإنساني وصدقها الحكائي، وتستحق أن تُدرّس نموذجًا على السرد التراثي الموجَّه برؤية حديثة. إنها قصة تنتمي بعمق إلى الأدب السعودي الأصيل، وتكشف عن وعي الكاتبة بأهمية توثيق ذاكرة المكان والمرأة والتعليم ضمن مشروع أدبي وطني يعتز بجذوره وينحاز لقيمه. وهكذا، تبرز القصة كإحدى الدرر السردية في كتاب سان جو، إذ استطاعت أن تزاوج بين التوثيق والجمال، وبين الأصالة والبساطة، لتؤكد أن الأدب لا يخلّد الكلمات فحسب، بل يخلّد القيم والوجوه التي صنعت الوعي الأول في حياتنا.

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر الخبر

سلمى البكري
محرر وناشر
مدير تحرير القسم الأدبي بالصحيفة

شارك وارسل تعليق

أخبار مشابهة

بلوك المقالات

الصور

.

.

أخر ردود الزوار

الكاريكاتير

استمع الافضل

آراء الكتاب

admin الدعم الفني
صحفي في قسم مناسبات, رئيس فريق الدعم الفني شبكة نادي الصحافة السعودي
شبكة نادي الصحافة السعودية موجودة في "مبادرة تمكين جودة الحياة
2023-09-07   

آراء الكتاب 2

admin الدعم الفني
صحفي في قسم مناسبات, رئيس فريق الدعم الفني شبكة نادي الصحافة السعودي
شبكة نادي الصحافة السعودية موجودة في "مبادرة تمكين جودة الحياة
2023-09-07   
جمعه الخياط جمعه الخياط
صحفي في قسم صوت المواطن, رئيس مجلس ادارة صحيفة صوت مكة الالكترونية
مؤسسة القايدي: الريادة والصدق في تطوير العقارات بمكة المكرمة
منذ 5 يوم و 4 ساعة   
ابراهيم حكمي ابراهيم حكمي
صحفي في قسم مقالات, مدير الدعم الفني والنشر
هوية لا تُقاس بالأرقام .
منذ 16 ساعة و 9 دقيقة   
ايمان محمد ايمان محمد
صحفي في قسم اخبار دولية, اعلامية ومراسلة صحفية في مجموعة شبكة نادي الصحافة السعودي
*وزارة الداخلية تحتفي بمرور 100 عام على تأسيس الدفاع المدني.. الثلاثاء المقبل*
2025-10-25   
فايزه عسيري فايزه عسيري
صحفي في قسم اخبار محلية, كاتبة وناشرة ببوابة صوت مكة التثقيفية
أمانة مكة تنظم ورشة حماية النزاهة وتعزيز الشفافية
2022-08-24   
بدر فقيه بدر فقيه
صحفي في قسم اخبار محلية, || محرر وناشر في شبكة نادي الصحافة السعودي. بكالوريوس نظم المعلومات من كلية الحاسب الألي بجامعة الملك خالد بأبها
عندما يتعرض مصاب بالسكري لنوبة انخفاض السكري وهو واعي
2018-11-20   
عيشه حكمي عيشه حكمي
صحفي في قسم اخبار محلية, محررة وناشرة بالصحيفة
رحلة اكتشافه للبيوت التراثيه لقريه عتود
2019-01-04   
حنين مسلماني حنين مسلماني
صحفي في قسم ثقافة وفنون, محرر وناشر
متصل الان (أحاديث قهوة )
2019-01-18   
شمعه خبراني شمعه خبراني
صحفي في قسم اخبار محلية, محرر وناشر بصحيفة صوت مكة الاجتماعية
وزارة العدل تتيح الاستعلام الإلكتروني عن الإقرارات
2019-12-15   
ساميه بكر سامية بكّر
صحفي في قسم مقالات, مدير تحرير القسم النسائي بمكة
مسيرة عطاء
2020-11-20   
سلمى البكري سلمى البكري
صحفي في قسم شعر وخاطرة, مدير تحرير القسم الأدبي بالصحيفة
أوراق مزيفة
منذ 19 ساعة و 5 دقيقة