فلاتر
الكاتبة : سلافة سمباوه
حياتنا أصبحت فلاتر !
فلاتر في التعامل والشكل والحياة برمتها ، طغت التقنية على واقعنا الطبيعي الجميل، وتعمقت لتُحدث شرخًا في حسن النوايا، ومصداقية الوجود، والشعور بلذة الحياة على طبيعتها الكونية؛ فغلب الشكل على المضمون، وبات هو المسيطر على كافة مسارات العلاقة الإنسانية، فانكشفت نوايا كثيرة كنا نحسبها نزيهة، وتهاوت أفكار وأرقام كانت تسيطر على الواقع والخيال، وسقطت أقنعة عديدة مارست فن الالتفاف وقلب الحقيقة، لتنكشف سوءات "الحمقى" الذين تسيّدوا المشهد.
وتبدلت الألفاظ وتحولت القناعات، حتى صارت لفظة "تحسينات" سائدة عند منعطف ظهور الحقيقة، وتحول "الكذب" إلى فن الدبلوماسية والمراوغة الذي أضحى أحد أبرز معايير اكتمال الشخصيات المؤثرة، التي تتقدم المجالس وتبهر واقع العمل المؤسسي، وتشوهت القناعات فأصبحت شكلية لا تمتّ إلى الواقع بصلة، ولا يمكن أن تصمد عند الاختبارات الحقيقية، فهشاشتها جعلتها تحتاج إلى تقييم دوري ومراقبة، وتغييرات تواكب شيئًا لا نعرف إلى أين يوصلنا.. وصارت في جُلِّها قناعات محفورة بالتكرار المقيت، الذي لا يمكن معه الانفصال عن حياة البشر من حيث الشكل.
صناعة الوهم أصبحت عبر تكوين هالة افتراضية حول شخص أو موضوع أو مكان هي حالة نفسية، واستجابة لدوافع انجرار مع الأحداث تتشكل وفق مسارعشوائي أووفق عملية منظمة، تُوقِع الإنسان في براثن الأَسر، فيطفق تأييدًا لها، فتكبر الدائرة حتى تصبح ممارسة مجتمعية وعملًا روتينيًّا، يصنف فيما بعد ضمن "العادات" التي ستُسقط على الأجيال،
لذلك زادت مع التطور السريع قاعدة الصورة الوهمية، وسلبت من الإنسان إرادته البشرية، فاختلطت المعلومات وتضاربت الآراء، وأنتجت سوادًا أعظم لا يدري أين هو؟ ومع مَن؟ وماذا يريد؟! والأدهى من ذلك أن الوهم في تشكلاته العامة يتحدث عن حرية الإنسان في كل ما يريد، فصار الناس يعيشون حياتهم بين وهْم الفلاتر، والالتصاق بمن يملك منصة موجَّهة لأغراض ظاهرها جميل وباطنها قبيح، وهذا التوجه هو توجه جماعي تقوده الغريزة في كثير من تفاصيله.
إن التحولات السريعة، التي فرضت نفسها وفُرضت علينا، قلبت حياتنا رأسًا على عقب، وجرّت الناس إلى هوة سحيقة لا يستطيعون الانفكاك عنها، فهي أشبه بالمخدِّر الذي لا يمكن الاستغناء عنه.فالحياة اليومية البسيطة تحولت من واقع جميل إلى فلاتر ومكياج شكلي، أثّر على المصداقية وجودة الإنتاج، ودفع إلى تضخيم الشكليات مع غياب المضامين لتصبح المعرفة هزيلة، ما أثر سلبًا على تمسك الأجيال بالتاريخ والإرث، وجعلها تدخل مستنقع التقليد، الذي أنتج أفرادًا ذوي معرفة سطحية هزيلة، يلهثون خلف الإعجابات التي تفرضها ساحة المواقع الافتراضية، ما زاد في ارتفاع المصابين بالأمراض النفسية، وخاصة تلك المتعلقة بالذين يقضون فترات طويلة بين وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد أصبحت الصورة الشكلية مهمة جدًا في عصرنا الحالي، لدرجة أنها أثرت تأثيرًا عميقًا في الحياة اليومية، ولطخت مفردات الثقافة فأصبحت لغتنا ملتوية على نفسها، فأصابها وابل الميوعة وقللت من تحفيز الفكر البشري في اختياراته، وانساقت خلف الكثرة دون خضوعها إلى معايير الذوق العام، أو خلف ما يمكن أن تحدثه تلك الخيارات من الانفصال عن الجادة السوية ، أننا نعيش في عالم يهتم ويركز على الجمال الاصطناعي، والمظاهر الخارجية التي غيرت كثيرًا من التفاصيل، وطمست الخصوصية البشرية التي ميزها الله بها عن سائر المخلوقات، إذ تقترب في كثير من تصرفاتها إلى كائنات تُعلف، أو بيادق تقاد وتستخدم في ما لا يقبله العقل والمنطق.
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في دفع الناس إلى الركون، والبحث عن أفضل التطبيقات التي تمنح تعديلات جمالية أفضل، وعززت لديهم فكرة عدم قبول الواقع بطبيعته، وبالتالي الجنوح إلى فكرة التعديل في كل عمل أو ظهور، حتى لا يأتيه الباطل من أي مكان حسب اعتقادهم
لذلك، فإن الفلاتر والمكياج الرقمي صرعة من صرعات العصر غيرت الواقع، سواء على مستوى الشخصية أو على مستوى المكان، وما نراه اليوم من توجه لإخفاء العيوب أثّر على مصداقية وجودة التعامل، كما أثر في مسار الصحة وصلابة الأجساد
كل شيء جنح إلى تضخيم الشكليات وتغييب الأفكار العميقة والمعرفة الفعلية، ليس على مستويات وسائل التواصل ومفردات الإعلام فقط؛ وإنما أثر في سلوكيات البشر واهتماماتهم، التي عززت النزعة الاستهلاكية ومطاردة الجديد، دون التنبه إلى الأضرار التي أثرت على توجهات الأجيال الجديدة، فتبرأت من تفاعلاتها الإنسانية تاريخًا وتراثًا وثقافة، لتنزوي إلى مفردات لا يمكن أن تكوّن الشخصية المستقلة، وإنما تلبسها التبيعة والدخول في جب التقليد والاهتمام بالمظهر الخارجي، والتمسك بالثقافات الهزيلة التي توجَّه عبر التقنية، من أجل تكوين أفراد أرقام لا قيمة لهم.
إن التحدي الأكبر هو مسألة إعادة التوازن بين الجمال الشكلي والمحتوى الفعلي، الذي أثر غيابه سلبًا على وجود أفراد لديهم قدرة على تمييز الحقيقة من الخيال، والذي لا يتأتى إلا من خلال أفراد على درجة من الثقة في ذواتهم وما يحيط بهم، وفي مدى تمسكهم بقناعاتهم التي تدفع لتميزهم عن الآخرين، وقد بينت دراسات كثيرة أن الذين يُغرقون أنفسهم بين الفلاتر والتعديل ينخفض مستوى ثقتهم بأنفسهم وبالآخرين، ما ينعكس على العلاقات الاجتماعية والثقافية وتحقيق رضا تفاعلي.
لذلك، فقد ترى جيل اليوم يميل إلى تبني المظاهر الخارجية، والاتجاهات السطحية التي تعكس صورة للواقع، الذي أدى إلى تفريغ المعرفة من مضامينها والتي تساهم في تكوين وبناء الشخصية الإنسانية اجتماعيًا، وبالتالي يكون الهوس هو القائد الذي يحرك الأفراد تجاه تفاعلهم اليومي، مع دخولهم في حالات الاكتئاب والكآبة في حالة لم يجد هوسهم إعجابًا في مجتمعهم الشبكي، لذا يدفعهم الإحساس بالنقص والتهميش إلى استخدام وسائل وأساليب، والمزيد من التجارب التي ستجلب لهم لا محالة التغيرات السلبية أكثر من الإيجابية، ومما يدل على ذلك زيادة عمليات التجميل بشكل صارخ إن الإحساس بقيمة الشيء المادي تلاشى ع فكل شيء أصبح يخضع لثورة التكنولوجيا، وسموم الذكاء الاصطناعي، ما سيقود الإنسان من حالة اكتشاف عميقة إلى حالة تسليم وسمنة عقلية، لا تختلف عن سائر المخلوقات الأخرى في شكلها وجوهرها، فتكون حياتنا بالمجمل فلاتر وهمية لا طعم لها ولا رائحة، وينقصها الاستدامة